الأحد، 19 ديسمبر 2010

عربي /جيمس جويس /حسن حجازي



عربى
قصة: جيمس جويس
ترجمة : حسن حجازى /مصر

****
شارع ريتشموند نورث , كونه مظلماً , كان يلفهُ الهدوء فيما عدا تلك الساعة التى يخرج فيها التلاميذ من مدرسة الأخوة كريستيان . فى منزل غير مأهول من طابقين يقع فى النهاية المظلمة من الشارع , منفصلا ً عن جيرانهِ فى مساحة مربعة عن المنازل الأخرى ، مدركاً لمَن يعيشون حياة كريمة داخلها، وتطل على بعضها البعض بوجوه بنية هادئة .
الساكن السابق لمنزلنا , كان قسيساً , ماتَ فى غرفة الرسم الخلفية .كان الهواء , عفناً من طول فترة غلقه , منتشراً فى كل الغرف , وكانت غرفة العادم الكائنة خلف المطبخ زاخرة بالأوراق القديمة العديمة الفائدة . وجدت ُ من بينها القليل من أغلفة الكتب , تلك الصفحات التى كانت مطوية ورطبة : رئيس الدير ، لوالتر سكوت , الناسك المبلغ , ومذكرات فيدوسك . أحبُ الكتاب الأخير أفضل لأن أوراقه كانت صفراء . خلف المنزل كانت الحديقة البرية تحوى شجرة تفاح فى الوسط والقليل من الشجيرات المتناثرة ,وتحت إحداها وجدت مضخة هواء صدئة لدراجة المستأجر السابق .الذى كان لفترة طويلة قسيساً خَيراً, ففى وصيته ترك معظم نقوده للمؤسسات الخيرية وأثاث مسكنه لأخته .




عندما هلت أيام الشتاء القصيرة وهبط الغسق قبل أن نتاول بصورة طيبة طعام العشاء , عندما نتقابل فى الشارع كانت المنازل التي أصبحت أكثر تجهماً.وسطح السماء فوقنا كان يتميز بلون البنفسج الدائم التغير وفى مواجهته مصابيح الشوارع رافعة مصابيحها الخافتة .كان يلدغنا الهواء البارد وكنا نلعب الى أن تتورد أجسامنا وكانت أصواتنا لها صدى فى الشارع الساكن الهادىء وكان من متطلبات اللعب هو أن نتجه إلى الحارات الطينية الموحلة خلف المنازل حيث كنا نجر تلك القفازات الصلبة من الكوخ للأبواب الخلفية للحدائق المبتلة ,حيث كانت تفوح رائحة بقايا الرماد المحترق ,بالإضافة إلى رائحة الأسطبلات المظلمة حيث كان الحوذى يُنعم ويُمشط شعر جواده أو يصدر موسيقى من حركة أحزمة اللجام الجلدية .عندما عدنا للشارع كان الضوء ينبعث من نوافذ شبابيك المطبخ و يملأ المنطقة وإذا ما ظهر عمى وهو يعبر جانب الشارع كنا نختبأ فى الظل إلى ان يدخل إلى المنزل بأمان .وإذا ما خرجت أخت مانجان على درج الباب لتستدعى أخيها للداخل ليتناول الشاى كنا نرقب ظلها يتحرك أعلى وأسفل الشارع وكنا ننتظر لنرى عما إذا كانت ستبقى أو ستدخل أما إذا بقيت فكنا نغادر ظلنا ونتجه أعلى إلى درجات سلم ماجنان بخضوع وإذعان. كانت تنتظرنا وكان شكلها يظهر من الباب النصف مفتوح وكان أخوها يضايقها قبل أن يذعن و يطيعها, كنتُ أقف جوار درابزين السلم أنظر إليها وكان فستانها يتموج على جسدها وهى تتحرك والرباط الرقيق على شعرها يتهادى من جانب إلى آخر .



كل صباح كنتُ أتمدد على الأرض أمام غرفة المعيشة أرقب بابها .وقد كانت الستارة تُسحَب لأسفل بمقدار بوصة حتى لا يرانى أحد وكانت عندما تتجه نحو درج الباب للخارج كان قلبى يقفز من مكانه و أركض نحو الصالة أمسك كتبى وأتبعها .كنت أحتفظ بشكل ظلها البني فى عيني وعندما نقترب من النقطة المفترض فيها أن نفترق , كنت أسرع من خطوتى وأتجاوزها . كان هذا ما يحدث صباحاً بعد صباح .لم أتحدث معها مطلقاً, فيما عدا كلمات قليلة عابرة , وحتى الآن كان اسمها يشبه الأستدعاء لكل خلايا دمى الأحمق .

كان طيفها يصاحبنى حتى فى الأماكن الأكثر عداءً للرومانسية فى أمسيات السبت عندما كانت عمتى تذهب للتسوق كنتُ مضطراً للذهاب لحمل بعض الأغراض ، كنا نمشى خلال الشوارع الصاخبة نُواجَه بالسكارى والنساء الدلالات وسط لعنات الكادحين والصيحات العالية من الأولاد الذين كانوا قائمين على الحراسة بجوار البراميل الخاصة بخدود الخنازير, والغناء الخارج من الأنف لمطربى الشوارع الذين يغنون الأغانى الشعبية لدونفان روسا أو قصيدة شعبية تعبرعن المشاكل والصعاب فى بلادنا الأصلية .


ذات مساء ذهبتُ لغرفة الرسم التى مات فيها القسيس . كان مساءً مظلماً ممطراً ولم يكن هناك أي صوت فى المنزل . خلال أحد الشبابيك الزجاجية المكسورة سمعت صوت سقوط المطر على الأرض وخرير الأبر الجميلة المتواصلة من الماء التى تلعب فى الأصص الخاملة . كانت بعض المصابيح البعيدة أو الشبابيك المضيئة تومض أسفل منى . كنت فى غاية الرضا بأننى أستطيع ان أرى القليل. كل مشاعرى يبدو أنها كانت ترغب فى إخفاء نفسها ,شعور كان يوشك أن يفر منها , ضغطت على قبضة يديا معاً حتى ارتعشتا , متمتماً :" أيها الحب ! أيها الحب !" عدة مرات
أخيراً تكلمت معى .عندما تفوهت بأول كلماتها لى كنت مرتبكاً جداً لدرجة أننى لم أعرف كيف أرد عليها . سألتنى عما إذا كنت سأذهب إلى عربى
نسيت أذا كنتُ قد قلت نعم أم لا . قالت أنه سيكون معرضاً رائعاً , وأنها تود الذهاب هناك .
سألت :
ولماذا لا يمكنك ذلك ؟" " -
وعندما كانت تتحدث لفت نظى وجود سواراً فضياً حول معصمها .قالت ,لا يمكنها الذهاب ,لأنه سيكون هناك عظة هذا الأسبوع فى ديرها .
كان هناك شجاراً بين أخيها وأثنين من الأولاد يدور حول قبعاتهم, وكنت بمفردى على الدربزين .أمسكت هى بأحد المقابض , منحنية برأسها ناحيتى . الضوء المنبعث من المصباح كان مواجهاً الباب الذى أمسك بإنثناءة عنقها وأضاء شعرها المستقر هناك , متهدلاً , ومضيئاً اليد التى تستند على درابزين السلم . وسقطت على جانب من فستانها, وممسكاً على الحد الأبيض من البالطو, الواضح للعيان عندما وقفت فى هدوء .
قالت :
إنه جميل بالنسبة إليك " ".-

قلتُ :
" إذا ذهبت ُ , سأحضر ُ لكِ شيئاً " -



يا لكم الحماقات التى لا تُحصى وتلك التى أضاعتنى بين يقظتى ومنامى بعد ذاك المساء ! تمنيتُ أن أمحو تلك الأيام المتداخلة المملة . كنتُ فى غاية الضيق من واجبات المدرسة . فخيالها يأتى ليلاً فى فراشى ونهاراً الفصل الدراسى , مقاطع كلمة عربي كانت بينى وبين الصفحة التى أجتهد فى مطالعتها .والتي كانت تُستدعى لى خلال الصمت الذى تسبح فيه روحى وتفيض فيهِ بسحر الشرق وبهائه وروعته . طلبتُ الخروج لكى أذهب للمعرض مساء السبت . دُهِشت عمتى وكانت تأمل أن لا تكون لتلك الزيارة علاقة بالقضايا الماسونية . قمت بالإجابة على بعض الأسئلة داخل الفصل . كنت أرقبُ وجه المعلم يتحول بين اللطف والتجهم ، كان يأمل أنى لا أكون قد بدأت فى التكاسل .لم أتمكن من استدعاء أفكارى الهائمة معاً . لم يعد لى أدنى درجة من درجات الصبر على العمل الجاد فى الحياة , التى كانت تقف حائلاً بينى وبين رغبتى , التي كانت تبدو لى لعبة صبيانية, . لعبة صبيانية رتيبة مملة


فى صباح السبت ذَكَرتُ عمى برغبتى فى الذهاب للمعرض فى المساء الذي كان مستنداً على درابزين السلم , يبحثُ عن فرشاة خاصة بقبعته , ورد فى اقتضاب :
"نعم , بنى , أعرف ."-


ولأنه كان فى الصالة لم أستطع الذهاب الى صالة الإستقبال الأمامية وأرقد فى الشباك . شعرت أن البيت كان فى حالة سيئة ومشيتُ ببطء للمدرسة .كان الهواء فجاً بلا رحمة , وأن قلبى كانت تتنازعه الهواجس وتلعبُ به الظنون .

عندما رجعتُ للمنزل للعشاء لم يكن عمى قد عاد بعد . كان الوقتُ لم يزل مبكراً. ظللتُ أحملقُ فى الساعة لبعض الوقت ، وعندما بدأت فى إثارة غيظى , غادرتُ الغرفة. وصعدت الدرج وغنمت الدور العلوى من المنزل .شعرت بالحرية فى تلك الغرف العالية ,الباردة, الفارغة والمتجهمة وكنت أغنى وأنا اخرج من غرفة لأخرى.ومن النافذة العليا كنت أشاهد رفاقى وهم يلعبون أسفل فى الشارع. وصلتنى صرخاتهم ضعيفة وغير مميزة , مرتكزاً بجبهتى على الزجاج البارد , نظرت هناك على البيت المظلم حيث كانت تعيش. ربما أكون قد وقفت لما يزيد عن الساعة , لم أر شيئاً سوى
ذلك الشكل الملفوف المتمَثل من خيالى لامساً بثبات ضوء المصباح عند تقوس الرقبة ,عند اليد التى كانت على قضبان الدرابزين و الأخرى تحت الفستان .



عندما هبطت السلم مرة ثانية وجدت السيدة ميرسير جالسة جانب المدفأة .كانت سيدة عجوز , سيدة ثرثارة, أرملة مغرمة بالرهان , تجمع الطوابع المستعملة لأغراض دينية مصطنعة . كان عليَ أن أتحمل تلك الثرثرة على مائدة الشاي ..... الوجبة أمتدت لأكثر من ساعة .


قال عمى أنه آسف لأنه نسى . قال لعمتي أنه يؤمن بالمثل القديم :"العمل المتواصل بدون لعب يجعلُ من جاك ولداً بليدْ ". سألنى أين كنت أود الذهاب , وعندما أخبرته للمرة الثانية , سألنى إذا كنت أعرف قصيدة وداع العربى لجواده . عندما غادرت المطبخ كان على وشك أن يترنم بالأبيات الأولى .

أمسكت بشدة بالفلورين (عملة ) فى يدى بينما كنت أخطو بسرعة عبر شارع بكنجهام تجاة المحطة. منظر الشوارع المزدحمة بالمشترين والمتوهجة بالغاز دكرتنى بالغرض من رحلتى . أخذت مقعدى فى عربة بالدرجة الثالثة لقطار منعزل. وبعد تأخير لا يُحتَمل تحرك القطار خارجاً من المحطة ببطء . زحف متقدماً بين منازل محطمة وفوق نهر يتلألأ . وفى محطة ويست لاند رو ضغط حشد من الناس فى محاولة لفتح باب العربة , لكن العمال أرجعوهم للخلف , قائلين لهم أنه قطار خاص للمعرض . ظللت وحيداً فى المحفة العارية . خلال عدة دقائق أقترب القطار إلى جوار رصيف خشبى مؤقت . مررت عليه إلى الطريق ورأيت وجه الساعة المضيئ يشير الى العاشرة إلا عشر دقائق . وأمامى كان مبنى واسع الى كان يعرض الأسم السحرى .



لم أستطع أن أجد أى مدخل للست بنسات , خائفاً من أن المعرض يكون قد أغلق أبوابه , فدخلت بسرعة من أحد الأبواب الدوارة , معطياً شلناً لرجل يبدو عليه التعب . وجدت نفسى فى صالة كبرى محاطة عند منتصف ارتفاعها بمعرض . معظم الأجنحة تقريباً كانت مغلقة والجزء الأكبر من
الصالة كان يسبح فى ظلام تعرفت على مثل هذا الصمت الذى يعم الكنيسة بعد العظة . تمشيت لوسط المعرض فى خجل . تجمع عدد قليل من
الناس بجانب الأجنحة التى كانت ماتزال مفتوحة أمام الستارة , التى كُتب عليها كلمات المقهى المغرد بلمبات ملونة ، ورجلان كانا يعدان النقود على صينية . كنت أسمع صوت سقوط العملات المعدنية ..



تذكرت بصعوبة سبب مجيئى , توجهت لأحد الأجنحة وقمت بتفحص
الزهريات الخزفية وأطقم الشاى الوردية .عند باب الجناح كانت هناك سيدة تضحك مع أثنين من الشباب . لاحظت لهجتهم الإنجليزية واستمعت لحوارهم بوضوح :.
"أوه, أنا لم أقل مطلقا شيئأً كهذا !:
"اوه، لكنك فعلت !"
"أوه، لكنى لم أفعل !"
"ألم تقل هى ذلك ؟"
"اوه ، هناك .....أكذوبة !"
عندما لاحظتنى , أتجهت السيدة الشابة ناحيتى وسألتنى أذا كنت أرغب فى شراء شيئأ ما . كانت نغمة صوتها غير مشجعة وكان يبدو أنها تتكلم معى بدافع من شعورها بالواجب المكلفة به . نظرت بتواضع ناحية الجِرار الفخمة التى تقف شامخة مثل الحراس الشرقيين على كلا الجانبين فى المدخل المظلم للجناح وغمغمت : :
" لا ، شكراً لك ."



قامت السيدة الشابة بتغيير وضع إحدى الزهريات وعادت مرة ثانية إلى
الشابين وبدأوا الحديث فى نفس الموضوع . نظرت لى السيدة الشابة مرة أو مرتين من أعلى كتفها .


تمهلت أمام جناحها رغم أنى أعلم أن بقائى كان بلا جدوى , لكى أجعل من اهتمامى بمعروضاتها يبدو أكثر صدقاً . بعد ذلك أستدرت ببطء وتمشيت لوسط المعرض .وسمحت لبنسين أن يقعا على الست بنسات فى جيبى .سمعتُ صوتاً ينادى من أحد جوانب المعرض أن الضوء قد أُطفا .والجزء الأمامى من الصالة أمسى الآن فى ظلام مطبق . .
محملقاً فى الظلام رأيتُ نفسي كمخلوقٍ يُدفَع بهِ ويُساق بلا أى قيمة , يُستهزأ بهِ ..تافه.. بلا قيمة ; وكانت عيناي تشتعلان وتحترقان فى لهيبٍ من الحمى والغضب .





ليست هناك تعليقات: